في يوم اكتست فيه السماء بالغيوم وجادت بهتان المطر الذي لا يكاد يبلل شيئاً ولا يترك أثراً مع نسمات خجلى من النسيم تهب من هنا وهناك تثير ما خف وجف من أوراق الشجر المتساقط.
استيقظت من نومي.. نظرت من نافذة غرفتي القابعة في الدور الثاني في منزل عائلة بريطانية (حيث كنت أقيم خلال رحلتي إلى بريطانيا لتعلم اللغة الإنجليزية)، مما أغراني بفرصة سانحة جميلة لأبتاع بعضا من الهدايا والملابس لأبنائي في السعودية.
تهيأت ونزلت وإذا بي أشده بذلك الجو الذي ما إن يحل حتى تحل البهجة والفرح والانشراح وتشعر كأنك في عالم آخر، تداعب فيه وجنتيك نسمات الهواء تنقلك إلى مساحات أرحب من الانبهار والذهول كأنك في حلم جميل لا تريده أن ينتهي.
بالمناسبة الناس هنا في بريطانيا لا يسعدون ويفرحون بأجواء المطر والغيم بقدر فرحهم بالأيام المشمسة، لأن أجواءهم في غالبيتها ممطرة وهم بذلك على العكس منا تماما فلأن أجواء المطر لدينا قليلة فإننا نفرح به كثيرا.
ركبت أحدى الحافلات وذهبت إلى وسط البلد حيث الاسكوير (وسط المدينة) كما يطلق عليه هناك والذي يتواجد به أغلب الماركات العالمية والمحلات المتنوعة.
حيث حديقة جميلة يمر في وسطها جدول صغير يكسب المكان جمالا إلى جمال، يترقق هذا الجدول بين أشجار الحديقة وأعشابها ليصب في البحر المجاور.
تتناثر في هذه الحديقة الأشجار الوارفة والأزهار الجميلة وتتخللها الجلسات التي تجمع الأصدقاء والمتحابين وزملاء الدراسة وزملاء العمل.
البعض يفترش الأرض المكسوة تماما بالعشب وبعض الورود هنا وهناك، وربما تشاهد بالجوار بعض الأطفال الذين يلعبون الكرة وربما ترى بعض المراهقين يداعب بعضهم بعضا دون إلحاق أي أذى بغيرهم لأن الغالبية هناك يحرصون على الذوق العام.
بمجرد نزولي من الحافلة وإذا بالأصوات الصاخبة والسيارات التي تزينها اللافتات فتساءلت بيني وبين نفسي.. ما هذا؟
وما هي إلا لحظات حتى تبينت الأمر، وإذا بها مظاهرة يطالب المتظاهرون فيها بحقوق Homeless كما يطلق عليهم وهم اللذين لا بيوت لهم تؤويهم ولا مساكن من الحر والبرد تحميهم، وغالبا يعيشون في الشوارع الداخلية وفي زوايا المحلات والمباني القديمة.
كانت هذه المظاهرة تتزامن مع مسيرة للشواذ (وهذا المصطلح لا أظنه يخفى على أحد خاصة مع رواجه في هذه الأيام) أو ما يطلق عليهم المثليين الذين يميلون إلى نوعهم ذكر مع ذكر أو أنثى مع أنثى.
اجتمعت المتناقضات، مظاهرة في طبيعتها محتشمة تطالب بحقوق مشروعة لل Homeless (وهم المشردون الذين لا مأوى لهم) وأخرى صاخبة متحررة تطالب بحقوق المثليين.
الأولى رأيت فيها أناس يسيرون في مجموعات رافعين شعارات ولوحات ويهتفون بهتافات يطالبون بحقوق فئة من المجتمع.
أما الأخرى فكان فيها عدد كبير من الشباب والشابات في سيارات كبيرة مفتوحة من الجوانب والموسيقى الصاخبة تنبعث من هنا وهناك حتى تكاد الأرض تهتز من تحت أرجلنا، وأجساد الراقصين والراقصات المتداخلة تهتز بكل ما أوتيت من قوة .
كان هناك من يوزع الأعلام والمنشورات على الناس المبتهجون حتى الأطفال وجدوا بغيتهم في هذا الجو الصاخب وهم يظفرون ببعض البالونات الملونة والجميلة بأحجام وأشكال مختلفة ويؤدون بعض الرقصات على إيقاع الموسيقى.
كان الجميع فيما يبدوا مبتهجون غير واحدا لم يكن كذلك إنه كاتب هذه السطور، أسفت لأني لم أحقق هدفي الذي خرجت من أجله.
عدت أدراجي من أتيت، ولكن بعد نزولي من الحافلة بدلا من أن أسلك طريقي إلى المنزل والذي يبعد مسافة قليلة من النقطة التي قف عندها الحافلة تحولت إلى حديقتي الجميلة والتي لا تبعد سوى أمتار قليلة من مقر إقامتي.
كثيرا ما كنت ألجأ إلى هذه الحديقة الصغيرة في مساحتها الرائعة في موقعها وتنوع تضاريسها مقارنة بغيرها من الحدائق العامة في هذه المدينة الصغيرة.
تطل الحديقة من بعيد على البحر حيث تبدو صواري قوارب الصيد شامخة في الأفق والتي ترسو على الشاطئ.
كنت غالبا ما ألجأ إلى هذه الحديقة أخلو بنفسي أتأمل في بديع صنع الله استمتع بسماع أصوات العصافير والحيوانات وحفيف الأشجار بعيدا عن زحام المدينة وضجيج الحياة.
كان هدوء المكان وجماله يغريك بقضاء أجمل اللحظات والتي تعيد شحن طاقتك وتجديد نشاطك خاصة إذا صادف هطول الأمطار الخفيفة والتي كثيرا ما تهطل في هذه المدينة كرذاذ خفيف لا يبلل ملابسك ومع ذلك فهو أحيانا يستمر لساعات.
وجدت هذه الحديقة المكان الأنسب لاقتناص لحظة استرخاء أغمض فيها عيني مع أنفاس عميقة لأدخل في حالة من السكون استمتع فيها بهدوء المكان ولطافة الجو.
أقضي هناك دقائق قليلة في تعدادها كبيرة في أثرها رائعة في جمالها، ما ألبث بعدها إلا أن أغادر المكان، ولكن بطاقة متوقدة ونشاط متدفق ربما يستمر معي لأيام.