في إحدى ليالي شهر رمضان المبارك وفي الحرم المكي الشريف قبل صلاة المغرب مباشرة كان صاحبي كالآلاف من المعتمرين يقضي لحظات روحانية ودقائق من السمو بهذه النفس البشرية، لحظات رائعة وجميلة من التأمل والرقي البشري، يسرد قصته فيقول:
قبل صلاة المغرب بدقائق كنت أقرأ آيات من القرآن الكريم ومع اقتراب أذان المغرب توقفت عن القراءة ورفعت يدي إلى السماء أدعوا الله وأتضرع إليه، وكان من دعائي : اللهم إني أسألك الجنة ..فتذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة” فسألت الله الفردوس الأعلى من الجنة وتذكرت ذنوبي الكثيرة وعظم تقصيري في جنب الله، وعلمت عدم استحقاقي لهذه المنزلة بعملي ..فذرفت عيني الدموع وانهمرت بغزارة وخشيت أن يعرف من بجواري ما أنا فيه..،وتذكرت كرم المولى عز وجل، وعظيم عطائه للتائبين، وجزيل ثوابه للذاكرين، فشعرت بسعادة غامرة لم أشعر بها في حياتي إلا قليلا، وعشت لحظات من الغبطة والسرور ما لا يعلمه إلا الله، تمنيت أن تطول تلك اللحظات ولكنها كانت قصيرة في زمنها، عظيمة في أثرها، وبينما أنا كذلك رفع أذان المغرب وتذكرت فضيلة تعجيل الفطور، فختمت دعائي وكفكفت دموعي وتناولت الإفطار في سعادة لا توصف.
انتهى صديقي من سرد قصته، والأسئلة التي تطرح نفسها:
- هل من اليسير أن نعيش لحظات مشابهة لتلك التي عاشها صاحبنا؟
- هل لابد أن نكون في الحرم أو في مكان عبادة حتى نصل إلى ما وصل إليه صاحبنا من السعادة والفرح؟
- ما مدى قدرتنا على إيجاد لحظات من التأمل والصفاء بين الفينة والأخرى في حياتنا؟
لن أتعرض هنا لتفاصيل هذا المفهوم الخطير ( التأمل ) فلعلي أفرد له مقالات خاصة بمشيئة الله تعالى لاحقا، ولكني سأتحدث عن تلك اللحظات النادرة في حياتنا التي نرتقي فيها بأنفسنا وأفكارنا، تلك اللحظات التي يقول عنها أحد علماء السلف: “والله إنه ليأتي على القلب لحظات من الأنس والسعادة يرقص فيها طربا وفرحا فإن أهل الجنة على هذا الحال إنهم لفي عيش طيب”.
إن من اليسير علينا أن نحصل على تلك اللحظات الرائعة الراقية متى ما أردنا ذلك، ففي ديننا أوقات فاضلة في اليوم والليلة – من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، وقبل الغروب – حثنا على اغتنامها لأنها تعد من أنفس الأوقات وأفضلها لممارسة التأمل، وجعل لنا أدعية وأذكارا نرددها صباح مساء تساعدنا على ذلك، بالإضافة إلى الصلوات وما فيها من حركات وآيات وأدعية ، كل ذلك مما يساعد على الخشوع والتفكر والتأمل والتدبر، وكلما كان معدل الخشوع والتركيز في صلواتنا وما فيها من آيات وأدعية أعلى كلما كانت الاستفادة من تلك اللحظات أعظم وأجدى، ولهذا كان يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم : “أرحنا بها يا بلال” أي بالصلاة، لما كان يجده صلى الله عليه وسلم في تلك الصلاة من راحة وأنس، ولا غرو فهي صلة العبد بربه وخالقه.
وسنكمل بمشيئة الله تعالى هذا الموضوع في الجزء الثاني فانتظرونا.
إن من أعظم النعم علينا أن التأمل يمكن مزاولته في أي مكان تشعر فيه بالراحة والطمأنينة وتقل فيه المقاطعات كشاطئ البحر مثلا أو على مرئى من منظر طبيعي خلاب أو من خلال سماع أصوات جميلة كصوت خرير الماء أو أصوات العصافير أو من خلال سماع تلاوات من القرآن الكريم للقراء المفضلين لديك، أهم شيء أن تبدأ في مزاولة التأمل ليكون جزءا من حياتك.
التأمل في ديننا عبادة من أجل العبادات وقربة من أفضل القربات وهو في بعض المعاجم مرادف للتفكر الذي دعينا إليه في كثير من آيات الذكر الحكيم، يقول بعض السلف: “تفكر ساعة خير من قيام ليلة”. وهو عند كثير من الثقافات الشرقية والغربية من التقنيات التي تريح العقل وتوصله إلى حالات من التألق والتمكن، يستطيع من خلالها إنجاز ما لا يمكن إنجازه في الحالات العادية.